الثقافةعاجل

الدكتور عادل اليماني يكتب : آنَ لأبي حنيفةَ أن يَمُدَّ رجْليه 

الدكتور عادل اليماني يكتب : آنَ لأبي حنيفةَ أن يَمُدَّ رجْليه
كتب: وليد السيد

كثيراً ما تخدعُنا المظاهرُ ، وكثيراً نري الناسَ علي غيرِ حقيقتِهم ، وتكونُ قراراتُنا ، مخالفةً للواقعِ الذي يجبُ أنْ يكونَ .

قالَ سيدُنا عليٌّ ، رضي اللهُ عنه وأرضاه : تَكَلّمُوا تُعْرَفُوا ،

فَإنّ المَرْءَ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ ..

كم أدهشتنا هيئةُ أُناسِ ،

كُنا نظنُهم ، مصابيحَ منيرةً ،

فأدهشنا أكثرَ ، ضعفُ حُجتِهم ، وتواضعُ منطِقِهم ،

وهوانُ موقفِهم ..

هي الدُنيا ، يا سادة ،

تُخفي أكثرَ مما تُظهرُ ، وهـؤلاءِ فيها كثيرون ، فاجتهدْ في فهمِها ،

وفهمِهم كذلكَ ، وكُنْ كالرقمِ ( واحد ) في جدولِ الضربِ ،

لايُعطي أيَّ رقمٍ ، كبيراً كانَ ، أو صغيراً ، أكثرَ من حجمِه ..

وهكذا خدعتِ المظاهرُ ،

أبا حنيفةَ النعمان ، الأمامَ الأعظمَ ، الذي ملأَ الأرضَ علماً وفقهاً ، خدعتْهُ ، رغمَ ذكائِه وفراستِه ، بل وعبقريتِه !

يجلسُ العَالِمُ بينَ تلامذتِه ،

في المسجدِ ، ماداً رجليه ؛

لآلامٍ في الركبةِ أصابتْه ، وكانَ قد استأذنَ منهم .

وبينَما الحالُ كذلكَ

، إذ برجلٍ ، عليه علاماتُ الوقارِ والرفاهةِ ،

بملابسَ بيضاءَ غاليةٍ ، ولحيةٍ كثةٍ مَهيبةٍ ،

فجلسَ بينَ تلامذةِ الإمامِ ، فما كانَ من أبي حنيفةَ إلا أنْ اعتدلَ في جِلسَتِه ، احتراماً وتقديراً ،

وكانَ التلامذةُ يكتُبون ما يقولُه الإمامُ ، والشيخُ الوقورُ يراقبُهم ،

وينظرُ إليهم ، من طَرفٍ خَفيٍّ ،

فقالَ لأبي حنيفةَ ، دونَ سابقِ استئذانٍ : يا أبا حنيفةَ ، إني سائلُك ، فأجبْني ،

فشَعرَ أبو حنيفةَ أنَّه أمامَ صاحبِ علمٍ واسعٍ ، واطلاعٍ عظيمٍ ، فقالَ له : تفضلْ ،

فقالَ الرجلُ : أجبْني إنْ كُنتَ عالماً يُتَّكلُ عليه في الفتوى !! متى يُفطِرُ الصائمُ ؟ ظنَّ أبو حنيفةَ أنَّ السؤالَ ( مُفخَخٌ ) فيه مكيدةٌ كبيرةٌ ،

أو حِيلَةٌ عميقةٌ ، لا يُدرِكُها علمُ أبيِّ حنيفةَ ، فأجابَه على حَذَرٍ شديدٍ : يُفطِرُ إذا غرَبتِ الشمسُ ،

فقالَ الرجلُ ، بعدَ هَذِهِ الإجابةِ ، ووجهُه يَنطِقُ بالجدِّ والحزمِ :

وإذا لم تغربْ شمسُ ذلكَ اليومِ ، يا أبا حنيفةَ ، فمتى يُفطِرُ الصائمُ ؟!!

وعندَها تكشّفَ الأمرُ ،

وظهرَ ما في الصدور ، وبانَ ما وراءَ اللباسِ الوقور !

فقالَ أبو حنيفةَ ، قولتَه الشَهيرَةَ ، التي ذهبتْ مثلاً ، وكُتِبَتْ في طَياتِ مُجلداتِ السِّيَرِ ،

بماءِ الذهبِ : آنَ لأبي حنيفةَ أن يَمُدَ رجْليه .

تُرى كم من صواحبَ لأبي حنيفةَ ، في هَذَا الزمانِ ؟

أما هَذَا ، فلم تخدعْه عطيةُ الباشا ! الذي أرادَ أنْ يطويَ عُنقَه بالمال ، ليدفعَ ثمنَ تعاليه ،

رغمَ أنْ الأمرَ في حقيقتِه ، لم يكنْ فيه لا تكبرٌ ، ولا تعالي ،

فقد كَانَ الشيخُ سعيدٌ الحَلبيُّ ،

عالمُ الشامِ في عصرِه ، متواضعاً زاهداً ، لا يُكلفُ ولا يتكلفُ ،

كانَ في درسِه أيضاً ، ماداً رجْليه ، بينَ تلامذتِه ،

فالشيخُ كبيرٌ ، والدرسُ طويلٌ ، فدخلَ عليه إبراهيم باشا ،

ابنُ محمد علي الكبير ، حاكمِ مصرَ ، فلم يتحركْ له ،

ولم يقبضْ رجليه ! فتألمَ الباشا ، ولكنَّه كتمَها في نفسِه ،

ولما خرجَ ، بعثَ إليه بصُرَّةٍ فيها ألفُ ليرةٍ ذهبيةٍ ، فردَّها الشيخُ ، وقالَ للرسولِ ، الذي جاءَه بها : قُلْ للباشا : إنَّ الذي يَمُدُ رجْليه ، لا يَمُدُ يدَه !

حقاً : إذا رأيتَ العُلماءَ على أبوابِ الملوكِ ، فقلْ بئسَ الملوكُ ، و بئسَ العُلماءُ ،

و إذا رأيتَ الملوكَ على أبوابِ العُلماءِ ، فقلْ نعمَ الملوكُ ، و نعمَ العُلماءُ .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!
إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: