
قالَ ليِّ والدي ، شيخ مشايخ سيناء ، سالمان اليماني ، رحمةُ اللهِ تعالي عليه :
يا ولدي ، بعد يونيو الحزين ، صبرنا صبراً ، فاق كل صبر ، ومرت علينا أيامٌ ، أحلي ما فيها مُر ، وعملنا جاهدين حتي مطلع الفجر ، من أجل أن يبدل الله عُسرنا بيسر ، قواتنا المسلحة الباسلة عبرت القناة ، وهزمت الطُغاة ، بدأت باسم الله ، الله أكبر ، وعلي أرض سيناء ، أقامت الصلاة .
عدل السماء ، وأعدّوا لهم .
فضل السماء ، وما النصر إلا من عند الله .
لقد أعد أبناء مصر المخلصون للمعركة ، وأخذوا بكل أسباب النصر ، وكانت يد الله فوق أيديهم ، فكان السند والمدد منه سبحانه ، وزُلزلت الأرض من تحت أقدام عدوهم ، وضاقت عليهم أرض سيناء علي اتساعها .
لقد قالوها ، وكرروها : المصريون لن يستطيعوا ، لأنهم لو حاولوا ، سيكون في المحاولة هلاكُهم ، فلقد أقمنا السواتر المتينة ، والنقاط الحصينة ، والسدود المنيعة ، حتي مياه القناة ، ستتحول ناراً حامية ، لا تُبقي ولا تذر ، فعلي المصريين ، إن أرادوا النجاة بجنودهم ، أن يستبعدوا تماماً فكرة العبور هذه ، فهي والمستحيل سواء !
هذه قناعاتهم ، لكنَّ قانون الله : وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ..
لما تركَ المُعلمُ الأولُ ، صلي اللهُ عليه وسلمَ ، مكةَ مُهاجراً ، قالَ :
مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وأَحبَّكِ إلَيَّ ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ ، مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ.
وحينَ وطأتْ قدماه الشريفتانِ المدينةَ المنورةَ ، قالَ :
اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أوْ أشَدَّ .
هو الوطنُ يا سادة ، شرفُ الإنسانِ وكرامتُه ، ومبعثُ فخرِه وعزتِه ، وهو أصلٌ أصيلٌ ، وركنٌ ركينٌ ، في الدِينِ نفسِه ، ولا يكتملُ الإيمانُ بدونِه .
وهي رسالةٌ ما أعظمَها ، وما أكملَها ، يبعثُ بها رسولُ الإنسانيةِ ، ومبعوثُ الرحمةِ الربانيةِ ، إلي الناسِ جميعاً ، في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ ، مؤداها أنَّ حُبَّ الوطنِ عبادةٌ تامةٌ شاملةٌ متكاملةٌ .
قال ( ص ) : مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا .
ترتيبٌ شديدُ الدقةِ والعبقريةِ ، منه ( ص ) لأولوياتِ احتياجاتِ الإنسانِ ، والبدايةُ المنطقيةُ ، بالأمنِ والأمانِ ، أي بالوطنِ ، الذي يحمي ويزودُ ويُدافعُ ، فلما تطمئنُ القلوبُ ، يأتي ما تبقي من احتياجاتٍ ، ولو تدنتْ إلي ( قوت ) ومفهومٌ أنَّ (قوت ) بخلافِ ( طعام ) فالقوتُ قليلٌ للغايةِ ، يكفي بالكادِ لإبقائِك حياً ، أما الطعامُ فهو كثيرٌ ، وفيه وفرةٌ ، ورغمَ أنَّه مجردُ ( قوت ) إلا أنه مع نعمتي الأمنِ والعافيةِ ، يعلو بالإنسانِ إلي مرحلةِ إمتلاكِ الدُنيا كُلِّها ، وهو ما نفهمُه في كلمةِ ( حِيزَتْ) بل وفي روايةٍ أُخري ، أعقبَ هَذِهِ الكلمةَ ، كلمةٌ أُخري أشدُ خطورةٍ ، وهي ( بِحَذَافِيرِهَا ) .
من أجلِ الوطنِ نُقاتل { قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا } ..
ومن أجلِ الوطنِ نتشاركُ ونتعاونُ { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } ..
ومن أجلِ الوطنِ ، ننبذُ الخلافَ { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } ..
ومن أجلِ الوطنُ يحرِصُ كلُّ فردٍ مِن أفرادِ المُجتمعِ ، على بذلِ الجهدِ ، وتقديمِ الخيرِ ، و كفِّ الأذَى والضَّرر عن البلاد وأهلِها .
مِنَ الجَميل أنْ يموتَ الإنسانُ من أجلِ وطنِه ، والشئُّ الأكثرُ جَمالاً ، أنْ يحيا هَذَا الإنسانُ من أجلِ هَذَا الوطن .
إنَّ مَنْ خانَ وطنَه ، وباعَ بلادَه ، كمَنْ يسرقُ من بيتِ أبيه ، ليُطعمَ اللصوصَ ، فلا اللصُ يكافئُه ، ولا أبوه يُسامحُه .
إنَّ حُبَّ الوطن ، غريزةٌ متأصِّلة في النفوسِ ، تجعلُ الإنسانَ يأنس بالبقاء فيه ، ويحنُّ إليه إذا غابَ عنه ، ويدافعُ عنه إذا هُوجِم ، ويَغضبُ له إذا أُضِيرَ ، وعلي هَذَا الأساسِ ، فطرَ اللهُ الأسوياءَ ، وأنارَ به سُبحانَه ، قلوبَ العُقلاءِ .
وطنى لو شُغِلتُ بالخُلدِ عنّه ،
نازعتنى إليه فى الخُلدِ نَفسي..
الوطنُ ماضينا وحاضرُنا ، تاريخٌنا وذكرياتُنا ، أملُنا ورجاؤنا ، وقبلَ ذلكَ كُلِّه ، هو النعمةُ العظيمةُ ، التي نسألُ اللهَ دوامَها ..